الأربعاء، 16 مايو 2012

الله أولى بالحيل عن الملأ


نصير الدين الطوسي في مرصد مراغة - المكتبة البريطانية

الفترة التي أعيشها الآن حرجة وخاطفة جدا وفاصلة للغاية.. ربما أحتاج لتصويرها بدفقات ليزر فائقة السرعة لأدرك التفاعلات التي تتم.. الامتحانات على الأبواب كما يقولون لكن اعذرني يا سيدي إنها ليست أي امتحانات.. إنها الامتحانات النهائية بالكلية -على الأقل كطالب بكالوريوس-.. في الحقيقة من يدرسون الطبيعة في مصر قلائل ومن يدرسون الفلك أقل.. لا أقول أننا مميزين بل أقول تعلمنا أشياء غريبة حقا.. ربما لم نكن لنسمع عنها في حياتنا لولا القدر، دعك من حبنا للسماء وأن معظم عملنا في الظلام ولا انسى مقولة أستاذي دكتور أحمد عصام المدير الحالي لمرصد القطامية "أول حاجة بيتعلمها الفلكي: إزاي يحسس".. -دعك من الإسقاط الجنسي للجملة- أظن أننا تعلمنا كيف نحسس فعلا.. ليس كل ما هو موجود يمكن رؤيته.. وليس كل ما تراه حقيقي.. وكما يقول ابن الهيثم "الحيرة متوجهة، واليقين متعذر والمطلوب ليس موثوق بالوصول إليه. فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط. فطريق النظر معفي الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين".

من رحمة القدير وتلكؤ القضاء المصري (الشريف) -الذي همدت جثته من كثرة عمليات "الترقيع" و"أسبابها"- أن أولى جلسات محاكمتي بعد مناقشة مشروع تخرجي بيومين.. ربما هو نوع من "أديني فضيت لكم.. لما نشوف آخرتها" سيكون هناك رئيس جديد لكن سيظل اسمي مع قناص العيون في قضية واحدة.. إنها سخرية القدر يا عزيزي. من الغريب أن تدعو الناس لمناقشة بحثك ومحكامتك في آن واحد. صديقي الأسكتلندي -أخيرا وجدنا الأيادي الخفية والتمويل الأجنبي من أين؟.. إنها أسكتلندا عدوة مصر اللدودة- قلق على ويسألني باستمرار عن أحوالي وأخبار قضيتي ويقول أن يكون لديك "criminal record" لسبب كهذا لهو فخر وشرف.. لا أنسى قهقهته عندما علم أن عدد المتهمين حوالي 400 شخص.. لابد أن قفص الاتهام سيكون كأي قفص "فراخ" محترم.. يقول صديقي العزيز أسامة حول تأليف أحد الكتب "إن تأليف مثل هذا الكتاب يحتاج إلى سجن" وفي مرة أطلعني على أمر مبهج وهو كتاب في العمل بالاصطرلاب " وفيه "وبخط الناسخ (700 هـ تقريباً) : ألف أبو الصلت هذا الكتاب وهو مسجون بحبس الشرطة بمصر.. لا حاجة لأن تعرف أن بحثي عن الأسطرلاب فعلا. يقول البيروني في مفتتح (استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الأسطرلاب): "اعلم أن الأنفس الصافية ذوات نزوع واشتياق إلى تصور الموجودات بالإحاطة بها بإطلاق".. نعم يا سيدي انفسنا ذات نزوع واشتياق ولا أحد يعلم ما القادم. وجدت بفهرس المخطوطات المصورة (الجزء الثالث - العلوم - الفلك والتنجيم والميقات) مخطوطة بعنوان أحكام نجومية تتعلق بمصر لم يعرف مؤلفها كتب في آخرها "الله أولى بالحيل عن الملأ".

الحقيقة أني أراهن على أنه لا أحد لديه الصورة الكاملة.. أراهن على صغائر الأمور.. المعادلات كلها غير خطية ومتعددة المجاهيل.. أراهن على "أثر الفراشة".. كما يقول أسامة: "مصر ليس فيها سلفية ولا ليبرالية.. مصر فيها عنصرية".. أظن أن المشكلة مع التعصب.. لا تضطهدني رجاءا.. ربما هي نفس لعبة أبو جهل الشهيرة واليهود مع المسيح عليه السلام.. لقد أتى الوقت الذي يَضطهد فيه المسلمون غيرهم كما فعل الكفرة بنبيهم.. هذا ليس جديدا يا سيدي انظر ما فعل بتراث المعتزلة.. أين التراث الفقهي والعقائدي للجاحظ؟.. ولا تقل رجاءا أنهم أعداء الأمة والإسلام وهذا الكلام.. لقد كانوا خير ذابين عن هذا الدين الإمام الشافعي نفسه يقول في المزني أنه "المزني ناصر مذهبي.. ولو ناظر المزني الشيطان لغلبه"!! لا داعي للسؤال عن تراث المزني فقد فعل به كما فعل بجدران معبد حتشبسوت.. هذا التعصب الذي جعل المأمون -وهو معتزلي ومؤسس بيت الحكمة- يجلد الإمام أحمد.. وهو نفسه -التعصب لا المأمون- الذي حرق أمهات الكتب ببغداد في أوقات التخلف. يقول القفطي: أخبرني الحكيم يوسف السبتي قال: كنت ببغداد يومئذ تاجرا، وحضرت المحفل، وسمعت كلام ابن المارستانية، وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم، وهو يشير إلى الدائرة التي مثل بها الفلك. وهو يقول وهذه الداهية الدهياء، والنازلة الصماء والمصيبة العمياء، وبعد اتمام كلامه خرقها وألقاها في النار. قال: استدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في الهيئة كفر، وإنما هي طريق إلى الإيمان ومعرفة قدرة الله جل وعز فيما أحكمه ودبره. أحد أساتذتي وأنا اتحدث عن تاريخ الأسطرلاب صاح "بس الطوسي ده شيعي" وما المشكلة في أن يكون الطوسي شيعيا.. لو لم يكن اعتقادي خاطئا فنحن لسنا الله.. الطوسي "عبقري آخر" يكفي أنه وضع السماء كلها على خط فيما يسمى بـ"عصا الطوسي" أو (الأسطرلاب الخطي).. صحيح أن الطوسي من (الحشاشين) بل ويتهم بالعمالة أيضا لكنه يظل العبقري صاحب "ثنائية الطوسي" وهو حل هندسي فائق البراعة استخدمه كوبرنيكوس بعد ذلك.


في العامين الأخيرين انتبهت إلى أني أهتم أكثر بتاريخ العلوم.. وأميل للتراث أكثر من الحداثة.. واكتشفت مؤخرا معهد البحوث والدراسات العربية ومعهد المخطوطات العربية.. وهما كنزان للباحثين والمهتمين بالتراث العربي والإسلامي.. الغريب أن في بلدنا المهتمين بالعلوم غير مهتمين بتاريخها والعكس صحيح.. لذلك تجد أساتذة العلوم لا يهتمون بالتراث العلمي -العربي وغيره- باعتباره "حاجة قديمة"  وأساتذة التراث يتعاملون معه كنص يجيدون تحقيقه ولا يجيدون دراسته.. تعرفت أيضا على معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت ومعهد التراث العلمي العربي بحلب. الآن يبدو لي المستقبل ضبابيا جدا وشفافا جدا في آن واحد.. كل الاحتمالات قائمة وكلها غير قائمة.. اللعنة على مبدأ ريبتك يا هايزنبرج وعلى قطتك يا شرودنجر.. لماذا يبدو لي أن كليهما لا يختلفان عن ابن الهيثم في شئ وربما لو سمعاه وهو يقول كلامه ذاك لقالا له "آه والنعمة يا برنس.. أعد".


هناك 3 تعليقات:

  1. بس في نقطة ان اللي اخترع الأسطرلاب الخطي مش نصير الدين الطوسي الشهير انما هو شرف الدين الطوسي :)

    ردحذف
  2. تسلم يا صديقي..
    لولاك لضعنا وأضعنا :)

    ردحذف